لأول مرة أفكر في مغادرة طنجة. لم تخطر في بالي مثل هذه الفكرة منذ أدركت أنني موجود، لكنني مؤخرا أشعر أن المدينة بدأت تلبس لباسا آخر غير الذي عهدتها به. تغيرت طنجة كثيرا في السنوات الأخيرة و أصبحت أشبه بغول لا يرحم وبدأت المادية تطغى على الجميع دون استثناء.
الآن إن أردت أن تستمتع قليلا بما تبقى من طنجة القديمة فعليك بزيارة الجبل الكبير و الرميلات، و بعض المناطق في مرشان. غير هذا، فالمدينة أصبحت تشبه أي مدينة أخرى من حيث السعار العقاري والهيجان المادي المهووس.
ماكنت أحبه في مدينتي هو ذلك الهدوء الأبدي الذي لا يكدر صفوه شيء: ذلك الهدوء الذي يمنحك النشاط حتى وأنت جالس في مقهى الحافة تتأمل البحر وتسخر من طريفة لأنها تعتقد أنها قد تنافس طنجة.
أهل المدينة أيضا أصيبوا بعدوى الفلوس وأصبحوا أيضا يتحدثون عن الدراهم ليل نهار. أراض تباع وتشترى. رجال ونساء يعملون في أي مكان و في أي وقت دون أي ضابط مهني أو أخلاقي. كل ما يريدونه هو المال، ثم ليأت الطوفان بعدها.
أين طنجة التي كان سائق سيارة الأجرة يبتسم لك في ود ويقول لك "نهار آخور آلخاوا" عندما تكتشف فجأة أنك نسيت محفظتك في البيت. أين طنجة التي كان الأطفال يتسابقون فيها لحمل قفة عجوز الحي. أين طنجة التي كان أبناؤها يغادون أي عمل لمجرد أن الباطرون يريد أن يبتسموا له في نفاق، بينما هم لا يجيدون ذلك.
طنجة يا طنجة..
لقد كنت متيمك الكبير.. ولازلت. رغم كل ما حدث ويحدث ورغم كل الألبسة الجديدة التي جربتها و لم تخلعيها رغم أنها لم تكن على مقاسك. رغم الضجيج .. رغم الصخب.. رغم اللهفة و اللهاث على وسخ الدنيا.. رغم المشاريع والعمارات.. رغم القبح الذي أصبح يطل من الوجوه. رغم أنني قد أغادر لفترة لأفكر قليلا إن كان الحب العذري الذي يجمعنا قد خف وقعه.
رغم كل هذا لازلت أرى وراء كل هذا طنجة التي عرفتها يوما. طنجة النقية. طنجة التي يقطنها الرجال. طنجة التي أحبها الجميع مثل بول بولز و آلاف غيره. أعرف أنك مدينة لا مبالية. تتركين الجميع يتعلق بك دون أن تلتفتي لأحد. لكنني ابن ترابك و أعرف أنك تبادلينني حبا بحب. فقط أنت مشغولة قليلا ببعض المشاريع، و ستعودين لي مجددا عندما ينتهي كل هذا. أليس كذلك؟