يلق سجن تزمامارت المغربي الرهيب من الحديث الاعلامي والثقافي العربي نصف أو ربع ما لقيه سجن أبو غريب تحت راية رامسفيلد، مع أن ما فاحت من وحشية تزمامارت تفوق ألف مرة كل صور الأهرامات البشرية العارية التي ظهرت من أبو غريب. وهو لم يلق كذلك من حديث المثقفين العرب ربع مالقيه أبو غريب وسائر مقابر صدام الجماعية التي تكشفت بعد سقوطه، مع أن بشاعة تزمامارت لم تقل عن بشاعة أبوغريب وسواه من أقبية، في ظل البعثيين.
وقد يسأل سائل لم أخص تزمامارت على وجه التحديد، فأقول لإن المغربيين أنفسهم نزعوا عنه الحصانة، وصار موضوعا لكتب ومقالات وبرامج تلفزيونية وروايات وأفلام سينمائية. ولم يعد هناك حجة حرج، أو تحرج، من الكلام فيه، لكنه مع ذلك وحتى بعد جلسات الاستماع لضحايا التعذيب التي نظمت رسميا ونقلتها التلفزة المغربية، وهدفت إلى المصالحة وطي صفحة الماضي الأليم، ظل قضية مغربية صرفة، لم يدخل فيها كثير من المثقفين العرب ممن خاضوا حتى ركبهم المرة تلو المرة، في انتهاكات أبو غريب، إن في حكم البعثيين، أو الأميركيين.
أما لماذا لم يفعلوا – رغم كارثية تزمامارت وأبعاده المفجعة التي كان مقدرا لها أن تحيل الشق الانساني من القضية، لشان ثقافي عربي لا مغربي وحسب للفت النظر لأوضاع المعتقلات السياسية ومن فيها، في عالمنا السعيد- فإن لذلك في تصوري أسبابا موضوعية، وأخرى عاطفية.
ابتداء، تزمامارت شأن مغربي تم الكشف عنه بإرادة مغربية، دشنت العهد الجديد وحسبت في ميزان حسناته، بعد أن كانت اجابة هرم العهد القديم عن سؤال مذيعة القناة الفرنسية عن تزمامارت، بأن الفرنسيين يجهلون جغرافية المغرب، فلا يعرفون ان تلك رابية تحيط بها الزهور!
بل إن تلفزيون “الجزيرة” عرض قبل أشهر، برنامجا وثائقيا عن سجن تزمامارت، وقد كان اللافت في الموضوع ان شارة النهاية حملت تنويها بأن البرنامج قد تم تسجيله بعلم وموافقة السلطات المغربية، مما يعد سابقة عربية، خاصة مع الأخذ في الإعتبار أن النظام ليس جمهوريا إذ يبدأ الجديد عادة بتصفية حساباته. وقد اعتمد البرنامج على شهادات لثلاثة سجناء سابقين نُظمت لهم مع فريق “الجزيرة” زيارة لذلك السجن الصحراوي الموحش، وكان ماقالوه وهم يتجولون في الباحات والحجرات الشاهدة على أنين وعذابات المئات ممن دفنوا تحتها، أو خرجوا نصف أموات، شيء لايصدق، لأنه يفوق في بشاعته كل مايمكن تخيله.
إذن، تفجر قضية أبو غريب بشقيها العراقي والأميركي كان مسبوقا ومصاحبا بحرب خارجية شرسة، لم يتم التواضع على كونها عدوانا أم تحريرا، وبإنهيار نظام ديكتاتوري، وبآلة اعلامية جبارة دخل العرب فيها لأول مرة، وبانقسام شديد في الرأي العربي شبيه بانقسام حرب الخليج الثانية، بطريقة أدت في نهاية المطاف لجدال غريب، انحرط فيه أكثرنا وتمحور في، أيهما ينبغي ان نحتج عليه: أبو غريب في عهد صدام أم أبو غريب في عهد بوش ؟! وأيهما ينبغي اللت والعجن فيه: صورة العراقي العاري الذي تجره السجانة الأميركية أم نزاهة وسائل الاعلام الأميركية التي نشرت تلك الصورة ؟! وكأن هذا يجب أن يكون في موقف تضاد أو تصادم مع ذاك، أو كأن ميزان محاكمة الفعل الأميركي هو مقارنته بتخلفنا وليس بالنظر في مرجعيته الأخلاقية الخاصة.
أما الأسباب العاطفية التي حالت دون أن يرقى تزمامارت إلى مصاف أبو غريب، فتتلخص في كون قضية السجن المغربي لاعلاقة لها بانقسامات المثقفين العرب وحروبهم، التي تشتد نيرانها كلما تجدد الحديث عن المشروع الأميركي في المنطقة.
في تصوري لم يبارح تزمامارت مع باقي المعتقلات المغربية التي فُتحت أبوابها حمى النقد الأدبي- وهذا لايمكن تحميله أكثر من طاقته- ما بين (تلك العتمة الباهرة) للطاهر بن جلون و (السجينة) لمليكة أوفقير. وحتى النقد الأدبي الذي يثبت باستمرار أن مواكبته للإبداع العربي بطيئة ومتعثرة، كان القليل منه هو الذي لم يقف عند تخوم الأدبي والفني والحبكة وتقنيات السرد ونحو ذلك من شروط ومعايير وحسب، وإنما جاوزه إلى النفاذ للجوهر، وهو كون العمل خاصة (السجينة) شهادة تاريخية سياسية بالغة الأهمية على تجربة فريدة وحقبة بكاملها.
وقد علقت ذات مرة بشكل عابر على رأس مقالة نقدية لرواية الطاهر بن جلون أحالتها لي بالإيميل زميلة، وهي قاصة يمنية، بقولي: هذا النقد كله كلاكيع حتى أن صاحبك مابيّن مسرح الحدث! فجاء ردها: الرواية تشكلت في فضاء عطارد ! أعيدي القراءة وستكتشفين ذلك !
وليس أطرف منه سوى ناقد آخر مكبوت، أو أخلاقي إن شئت، كانت تهويمات (السجينة) الجنسية على قلتها وحشمتها في ذلك الإبداع الوثيقة، هي موضوع محكمته التفتيشية.
هل تنصّرت مليكة أم لا؟ شغله السؤال عن البحث فيما بقي من أعمار وأحلام وأجساد أسرة كاملة مع طفل في الثالثة من عمره، يمضون عشرين عاما موصولة في المطامير، في تجرية لفرط قسوتها وغرابتها لاتحيط بها العقول.
لقد أدت قصص أبو غريب على عهد صدام، أو قصصه الأميركية المصورة بكاميرات رقمية، وظيفة نفعية لبعض المثقفين والاعلاميين العرب، وكانت جزءا من تراشق عبقري بينهم، تجدد مع حرب أميركا الأخيرة، ثم استعر، وهذا ما مالم يتوافر لتزمامارت الذي لم يدخل ضمن شروط اللعبة الإعلامية المحمومة وقواعدها.
مثّل أبو غريب في قمة الفوران والاختلاف بين المثقفين العرب حول مشروعية الحرب ونتائجها، دور أداة تصنيف نموذجية، ومطواعة، لكل من ابتغاها. ولاشك أن التصنيف وظيفة متأصلة في البنية المعرفية لكثير من المثقفين العرب مهما ادعوا التسامي عليها. فكان مجرد التشكيك في شرعية حرب أميركا، ومن ثم إدانة فضائحها في أبو غريب، كافيا لتصنيف المثقف في خانة القومجية أو البعثية البائدة أو حتى الدفاع عن الدكتاتوريات العربية. في حين أن من وضعوا المسوغات لغزو العراق ورفضوا ادانة أبو غريب الأميركي متعللين بأشياء كثيرة أهمها فضائح المعتقلات العربية نفسها، وانها الأولى بالإدانة، وجدوا من يصنفهم بالحزب الأميركي، أو يرميهم بذاك الهوى في أرحم الأحوال.